لطالما أكَّد الأطباء على ضرورة تجنُّب الأهل للمجادلات المُتمحورة حول الطعام مع بناتهم اللواتي يعانين من فقدان الشَّهيَّة، والتَّخلِّي عن المشاجرات الغير مجدية ومحاولة التَّحكُّم بأجساد بناتهم. ولكن عندما أَدخَل كلير ” Claire ” وبوب دونوفان ” Bob Donovan ” ابنتهما ميغان “Megan “إلى مستشفى الأطفال في ميتشغان، بسبب معاناتها من نقصٍ حادٍ بالوزن لدرجة التصاق جلدها بعظمها، كان اللَّوم يقع عليهما مباشرةً.
كانت ميغان قد جوَّعت نفسها حتى فقدت 85 باونداً، ولإنقاذ حياتها، طلب المعالجون من والديها أن يُقدِّما لها الطَّعام على أنَّه وصفةٌ دوائيةٌ طبيةٌ، وأن يطلبا منها بلطفٍ ولكن بحزمٍ أن تستريح في الفراش عند امتناعها عن الطَّعام، وأن يُكافئاها برحلاتٍ إلى المركز التجاري عند إقبالها عليه، ومع تعافي ميغان لاحقاً واستردادها لصحتها، بدأ أهلها بمنح فتاتهم الصَّغيرة التي بلغت من العمر 17 عاماً مجالاً أكبر من الحرية في اختيار كليتها، وقضاء الوقت مع أصدقائها.
إنَّ استخدام الآباء كأدواتٍ في علاج فقدان الشَّهيَّة لدى المراهقين، يُعتبر نهجاً ثورياً جديداً تمت مناقشته وتعليمه في المؤتمر الدُّولي التَّاسع لاضطرابات التَّغذية في مدينة نيويورك. لقد كانت الآراء التقليدية السَّائدة تقول بأنَّ الخلافات العائلية تمهِّد الطَّريق لاضطرابات التَّغذية في سنِّ المراهقة، ولهذا السبب كان المعالجون ينصحون الآباء والأمهات بتجنب الشجار مع أبنائهم، والسَّماح للمراهقين بتحمُّل مسؤولية شفاء أنفسهم. لكنَّ عدداً متزايداً من المعالجين، ومنهم طبيبة ميغان، يقترحون أنَّ الآباء المُدرَّبين بشكلٍ خاصٍّ يمكن أن يكونوا بمثابة العلاج الأكثر فعالية لهذا الاضطراب، والأبحاث الحديثة تدعم تلك الفكرة.
تقديم الغذاء كدواء
تقول الدكتورة باتريشيا ت. سيجل “Patricia T. Siegel” المختصَّة بطبِّ النفس عند الأطفال في مستشفى الأطفال في ديترويت: ” عندما تأتي هؤلاء الفتيات الصَّغيرات لرؤيتنا يكنَّ خارجاتٍ عن السَّيطرة. إنهنَّ غير قادراتٍ على تحمُّل أيَّة مسؤولية “. وتحدَّثت سيجل عن قضية ميغان قائلة: ” أخبَرنا والدي ميغان أنَّ طفلتهما كانت مريضةً لدرجة أنَّها ليست قادرة على تحسين حالتها الصِّحية، فخطورة حالتها كانت تُعادل خطورة الإصابة بمرضٍ قلبيٍّ، وحمَّلنا الوالدين مسؤولية إعطاء ابنتهما أدويتها، وفي هذه الحالة كان الدَّواء هو الغذاء “.
هذا النَّهج في علاج فقدان الشَّهيَّة تصدَّر عناوين الصُّحف قبل ستَّة أشهرٍ، بعد أن نشر الدكتور آرثر ل. روبن ” Arthur L. Robin ” نتائج إحدى الدراسات، في عدد كانون الأول عام 1999 من مجلة الأكاديمية الأمريكية للطب النَّفسيِّ للأطفال والمراهقين. عمل روبن، وهو أستاذ في الطب النَّفسيِّ والعلوم العصبية السُّلوكية في جامعة واين ستيت، بالاشتراك مع زملائه على متابعة حالة 37 فتاة. تمَّ علاج ثمانية عشر منهنَّ في جلسات علاجٍ فرديةٍ، بحيث قُدِّمت المشورة إلى أولياء أمورهنَّ بشكلٍ منفصلٍ، وطُلب منهم التَّخلي عن اعتماد طريقة التملُّق أو أمر بناتهم بتناول الطَّعام. أمَّا الفتيات الأخريات البالغ عددهنَّ 19، فالتقين بالاشتراك مع أولياء أمورهنَّ بالمعالجين الذين حمَّلوا الوالدين مسؤولية الإشراف على غذاء بناتهم.
استجابت غالبية الفتيات في كلا المجموعتين بشكلٍ جيدٍ للعلاج: 70٪ وصلن إلى الوزن المطلوب. لكن الفتيات اللَّاتي تمَّ تدريب أولياء أمورهنَّ على الإشراف على غذائهنَّ، اكتسبن وزناً أكبر بوقتٍ أسرع، وبعد عامٍ واحدٍ وصلت المزيد من هؤلاء الفتيات إلى أوزانٍ صحيةٍ.
دور الأسرة السَّلبي
يقول روبن: ” ترى وجهة النَّظر القديمة أنَّ عائلات الفتيات اللواتي يعانين من اضطراب فقدان الشَّهيَّة، لعبت دوراً سلبياً في التَّسبُّب به “. من المؤكَّد أنَّ المشاكل الأسريَّة غالباً ما تُساهم في اضطراب فقدان الشَّهيَّة، ولكن إذا نظرنا من جانبٍ آخر فسنجد أنَّ الآباء قادرون على تقديم أفضل أشكال العون للمعالج. يقول إيفان إيسلر “Ivan Eisler”، وهو طبيبٌ نفسيٌّ في جامعة لندن: إنَّ الفتيات اللواتي يشارك أولياء أمورهنَّ بشكلٍ مباشر في العلاج، لا يتطلَّب علاجهنَّ في كثيرٍ من الحالات أكثر من بضع جلساتٍ لتحقيق النتائج الجيدة”.
أحد الأسباب التي تجعل تأثير الوالدين فعالاً هو أنَّهم يقضون يومياً الكثير من الساعات الطوال مع ابنتهم، وعندما يتمُّ تدريبهم كما ينبغي، سيتمكَّنون من مراقبة وتوجيه عادات طفلتهم الغذائية، وذلك وفقاً لما قالته الدكتورة ايمي بيكر دنيس “Amy Baker Dennis”، وهي أستاذةٌ مساعدةٌ في كليَّة الطب بجامعة وين ستيت، ومديرة التَّدريب والتَّعليم في أكاديمية اضطرابات التَّغذية. كما أنَّ الآباء والأمهات يعرفون ابنتهم وحياتها الاجتماعية معرفةً عميقةً. لذا هم قادرون على مساعدتها في حلِّ المشاكل والتَّغلُّب على العقبات التي تُواجهها، بالإضافة إلى أنَّ هذا النَّمط الجديد من العلاج، لا يمنع الأسرة من اللُّجوء إلى العلاج النَّفسيِّ، لحلِّ القضايا التي ربما تكون قد ساهمت في اضطراب التَّغذية.
تُحذِّر دنيس من أنَّ هذه الطريقة في العلاج لن تكون ناجحةً بالنسبة لجميع الأسر، فالفتيات اللواتي يعاني آباؤهنَّ من مشاكل خطيرة، كتعاطي المخدرات أو الأمراض العقلية، يُفضَّل أن يتمَّ علاجهنَّ بشكلٍ فرديٍّ.
مكافأة الطفل عند إقباله على تناول الطَّعام
عندما دخلت ميغان إلى مستشفى الأطفال، كانت قد تخرَّجت من المدرسة الثَّانويَّة، وكانت حينها قد فقدت 50 رطلاً خلال ستة أشهر. أوَّل ما قامت به الدكتورة سيجل هو طمأنة والدي الفتاة بأنَّ اللوم لا يقع عليهما في مرضها، وتُوضِّح الدكتورة ذلك قائلة: “هذا الأسلوب سيُلغي شعور الذَّنب لدى الوالدين، وسيُشركهم بمراحل العلاج”.
ثُمَّ حمَّلت سيجل الوالدين مسؤولية إعداد وجبات الطَّعام المُقرَّرة من قبل أخصائي التَّغذية، وطُلبت منهما ألَّا يُجبرا ميغان على تناول الطَّعام، فتقول سيجل: ” كانت هذه مسؤولية ميغان الأساسيَّة”. بدلاً من ذلك، درَّبت سيجل الوالدين على كيفيَّة استخدام الحوافز السُّلوكيَّة للنَّجاح في تشجيع ميغان على تناول الطَّعام. على سبيل المثال، عندما كانت ميغان ترفض تناول الطَّعام، كان والداها يطلُبان منها أن ترتاح بهدوءٍ لتوفِّر طاقتها، وعندما كانت تُقبل على الطَّعام، كانوا يُكافئونها بمكافآتٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ، فمثلاً كان تناولها للعشاء الصِّحي يُكسبها رحلةً إلى المركز التجاري مع أصدقائها. وعندما وصل وزن ميغان إلى 100 رطلٍ -وهو هدفٌ صعبٌ بالنسبة لحالتها -أخذوها برحلةٍ إلى شيكاغو لشراء فستان حفلة راقصة.
لم تكن الأشهر الأولى من العلاج سهلة، فعندما أعربت ميغان عن شُعورها بالارتياح نفسياً وجسدياً حينما بلغ وزنها 85 رطلاً، كان سلوكها يتَّصف بالعداء والخداع، إذ كان ذلك السُّلوك يتمثَّل بإخفائها للطَّعام في منديلٍ لكي تتجنَّب تناوله، أو بوضع النُّقود في ملابسها الدَّاخلية قبل أن تقف على الميزان. لكن سيجل درَّبت الوالدين على الصُّمود في تلك المرحلة الصَّعبة. تقول سيجل: ” يجب على المُعالج أن يُطمئن الوالدين بأنَّه سوف يُتابعهما ويُساندهما في عملية السَّيطرة على حالة ابنتهما”.
على الآباء أن يتعلَّموا كيفيَّة إعطاء الحرية لأطفالهم
حالما وصلت ميغان إلى الوزن المطلوب والبالغ 115 رطلاً، تحوَّل تركيز العلاج من وزن ميغان إلى مشاكل الأسرة، التي يجب حلَّها من أجل الحفاظ على صحة ميغان. كانت ميغان تقضي لسنوات الكثير من السَّاعات أسبوعياً للتدرُّب على الرَّقص، ولكن ميغان تحتاج الآن للاستمتاع بحياتها كمراهقة. أدركت أمها، التي تفتخر بدورها ” كأمٍّ لراقصة”، أنَّها كانت – دون وعي – تضغط على ميغان للمواظبة على تمارين الرَّقص. تقول سيجل: ” أرادت ميغان قضاء المزيد من الوقت مع أصدقائها، ولكنَّها لم تعرف مطلقاً كيف تُخبر والديها بذلك “.
عندما فهم الوالدين احتياجات ابنتهما، عملوا على دعم سعيها نحو كسب استقلالها، بما في ذلك خطَّتها للذَّهاب إلى الكليَّة في الخريف المقبل. كما ساعدت سيجل الأبوين على موازنة شعورهم بالقلق حيال ترك طفلتهما تحيا حياتها، من خلال توجيه تركيزهما على الاستمتاع بوقت الفراغ النَّاتج واستثماره لأنفسهما. تقول سيجل: “بدأ الوالدان بممارسة الرِّياضة والسَّفر معاً، فكان يجب لهذه الصفحة من حياتهم أن تُطوى، وبالفعل كانوا قادرين على فعل ذلك”.